[size=16]حين أتناول موضوع التمرد الطائفي في مصر الذي يوصف خطأ بأنه فتنة طائفية أو احتقان طائفي ، فإن الغاية من التناول هي التنبيه إلى خطر داهم يهدد البلاد والعباد ، وينذر بالشر والسوء ؛ ليطال الأغلبية والأقلية جميعا ..
كان عبور قناة السويس في حرب رمضان 1393 هـ = 1973 م بداية فزع في الغرب الصليبي الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة ، واعتقاد لديه بأن مصر والعرب بالتالي ؛ يمكن أن يكون لهم دور في واقع المنطقة ،ومستقبل في بناء أمة ؛ تملك المعرفة والوعي والقوة والتصدي لمخططات الهيمنة والسيطرة الأجنبية ، والقدرة على الوقوف في وجه الغزو النازي اليهودي الذي تمركز في فلسطين ، وانطلق منها يهدد دول الجوار ، ويحتلها ويفرض عليها الذل والعار ..
عقب محادثات فك الاشتباك ، أو الكيلو 101 على طريق السويس ، عاد هنري كيسنجر ، وزير الخارجية الأميركي ، ومستشار الأمن القومي إلى بلاده ، ليضع خطة تفتيت المنطقة وتمزيقها على أسس عرقية ودينية ومذهبية وطائفية ، بحيث تنشغل الأمة العربية الإسلامية عن قضيتها الأساسية ،وهي تحرير المقدسات الإسلامية في فلسطين ، وإعادة أهلها إلى مواطنهم ، ونزع مخالب الشر والعدوان من الغزاة النازيين اليهود . شمل المخطط معظم البلاد العربية ، ونشرته الصحف الأميركية ، ونقلته في كتابي الحرب الصليبية العاشرة قبل ثلاثين عاما تقريبا ؛ وبدأ التنفيذ بالفعل في لبنان ، واستمرت الحرب الطائفية خمسة عشر عاما ، ما بين 1975 إلى 1990 م ، وخسر اللبنانيون جميعا ،وفي السودان حارب النصارى مؤيدين باليساريين السودانيين حكومة بلادهم لأكثر من ثلاثين عاما ، انتهت بدولة الجنوب التي صار لها نشيد وعلم وعاصمة ووزراء وسفارات وجيش يستورد الدبابات والطائرات والأسلحة الثقيلة . وفي العراق نجح الأكراد بعد وصول الدبابات الأميركية عام 2003 م ، واحتلال بغداد في إنشاء كيان كردستان ،وله أيضا نشيد وعلم وبرلمان والبشمركة (= الجيش الكردي ) ، وبقية المناطق مرشحة للتمزيق على امتداد الوطن العربي ، ولا أحد بعيد عن مخطط التمزيق والتفتيت مهما ادعي قربه من الولايات المتحدة وصداقتها .
تصور الناس أو كثير منهم أن مصر بعيدة عن المخطط ، ولكن كيسنجر ، وضعها على رأس القائمة ، وإن كان التنفيذ على أرضها صعبا بحكم انسياح الأقلية الطائفية ضمن النسيج العام للوطن في كل البقاع ، وشدة انتماء النوبيين إلى إسلامهم ووطنهم ، ومع ذلك فقد تم البدء في التنفيذ ، وبعد خمس وثلاثين سنة ؛ تبلورت فكرة ما يسمى الدولة القبطية في وجدان الأقلية الطائفية ، وظهر من بين النوبيين ( المنتمين إلى اليسار ) من يتحدث عن دولة نوبية تلتقي مع أهل النوبة في شمال السودان !
الحكومة المصرية على مدى العقود الماضية ، لم تهتم بالأمر ، ولم تأخذه مأخذ الجد ، وعدته تخرصات صحفية ، أو تخمينات ثقافية ! ولكن القوم كانوا يعملون بدأب وجد لتحقيق تمزيق البلاد ، أو إثارة ما يسمى الفوضى الخلاقة في أرجاء مصر .
ومع مجيء القيادة الحالية للكنيسة الأرثوذكسية عام 1971 م فقد بدأت مرحلة الاشتباك مع الأغلبية وفرض المطالب التعسفية ، وتجنيد الأقلام والأبواق ، وخاصة من أهل الهوى اليساري والعلماني ، وتجييش نصارى المهجر للتشهير بالبلاد والإسلام ، والتظاهر ضد رئيس الدولة كلما زار عاصمة أوربية أو أميركا ، وإنشاء مئات المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية والصحف الورقية في شتى أرجاء العالم للنيل من الوطن ورئيسه ودين الأغلبية ، وإطلاق الأكاذيب حول الاضطهاد الأقلية في مصر .
ولا شك أن القيادة الحالية للكنيسة الأرثوذكسية تتعامل بذكاء شديد ودهاء أشد مع الواقع السياسي والإعلامي لدرجة جعلت البعض كأنه يعيش في غيبوبة ، ولا يدري ما يجري في بلاده ، فيكتب عن الأنبا شنودة في عام 2008م واصفا إياه أنه رجل بحجم أمة له مكانته التي يحتلها في قلوب المسلمين ، وينتمي إلى عصر العظماء أصحاب الكاريزما الذين نفتقدهم في أيامنا ، ويشبهه بعلماء وقادة فضلاء يصعب أن نجد فيه ميزة من ميزاتهم إذا وضعنا في الحسبان ممارساته السياسية ومباركته العملية للمتمردين في الداخل والخارج !
ومع ضعف السلطة أمام المتمردين الطائفيين ، واستسلامها للضغوط الخارجية ، فقد استطاع هؤلاء الحصول على مكاسب غير متوقعة ، في مقدمتها حرمان الشعب المصري من التعبير عن إسلامه وعدم تطبيق شريعته، في الوقت الذي ترفض فيه الكنيسة تنفيذ الأحكام القضائية التي تدعي أنها لا تتفق مع ما جاء في الإنجيل !
في هذا السياق الذي ينذر بالخطر ، لتمادي المتمردين في تنفيذ مخطط التفتيت والتمييز أو الفوضى الخلاقة ، وصلت الأمور إلى حد استخدام السلاح ولغة الدم ،من خلال اغتيال منظم لأحد المسلمين في منطقة الأميرية في أكتوبر 2008م ، وإصابة زوجته ، وبتر ذراع ابنته ، ووصف المتمردون القاتل بأنه بطل قومي مسيحي ! فضلا عن استعراض المليشيات الكنسية المدربة( تحت مسمى الكشافة ) لتأمين موكب الأنبا العائد من رحلته الأميركية ، وحراسته حتى يصل إلى الكاتدرائية.
معالجة الأمر فكريا وثقافيا وسياسيا ، وطرحه على الأمة والتحذير من مخاطره ؛ يغدو واجبا قوميا ،وفرضا دينيا من أجل سلامة الوطن والمواطنين والإسلام والمسيحية جميعا .
لقد ظلت العلاقات بين عامة الشعب ( مسلمين وغيرهم ) على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان تتسم بالهدوء والتلقائية ، ولم يفسدها إلا محاولات المتعصبين الطائفيين الذي جنحوا إلى استغلال الظروف الداخلية أو الخارجية ،وانقلبوا على أهليهم وتمردوا على أشقائهم، كما جري في أثناء حملة السفاح نابليون على مصر عام 1798م ، وبعد هزيمة 1967م مذ تولى الأنبا الحالي قيادة الكنيسة أواخر عام 1971م .
نحن المسلمين نؤمن بموسى وعيسى عليهما السلام ، ولا يكتمل إسلامنا بغير هذا الإيمان ، ونتمنى لغير المسلمين أن يعيشوا بيننا مسالمين موادعين ، دون أن يشعروا أننا غزاة ، أو أن اللغة العربية عار ، أو أن لغتهم الأصلية هي الهيروغليفية !
وبالطبع فليس من المسالمة أن تفرض الأقلية إرادتها على الأغلبية ، وليس طبيعيا أن نغير القرآن الكريم ، أو نلغي الإسلام في المناهج التعليمية ،والبرامج الإعلامية لترضى الأقلية ، فهذا تجاوز لا يمكن قبوله ولا الاستسلام له .
إن المصريين جميعا يعيشون ظروفا استثنائية ،وأحوالا غير طبيعية بسبب الاستبداد والإقصاء والانهيار الشامل في التعليم والاقتصاد والثقافة والزراعة والصناعة ، مما ترتب عليه ظلم اجتماعي كبير يصطلي بناره الضعفاء الذين يمثلون أكثر من 80% من شعب مصر ،ولا يعني ذلك بحال أن نسعى إلى تمزيق الوطن ، أو إثارة الفوضى الخلاقة في أرجائه استجابة للمخطط الصليبي الاستعماري الذي لا يريد خيرا بالمسلمين أو غيرهم ، بل يريد تحقيق مصالحه وحدها مهما كان الثمن دون أن يعبأ بأخلاق أو قيم أو إنسانية عليا ، والأمثلة كثيرة في أنحاء العالم ؛ حيث يتخلى المستعمرون عن صنائعهم بمجرد انتهاء مهمتهم .
إن خروج الطائفة من معتزلها أو الجيتو الذي وضعها فيه قادة التمرد ، أمر ضروري ، كي يشاركوا في الحياة العامة ،ويعيشوا حياة المجتمع بتحولاتها واهتماماتها المختلفة .
ليس من الحكمة أن تطلب الأقلية امتيازات أو كوتة خاصة بها ، لأن ذلك يخل بمبدأ المساواة والمواطنة والديمقراطية ،ولتكن الأقلية أيا كان عددها [ عشرة أفراد أو عشرة ملايين ] مثلها مثل الأغلبية ، لها مالها، وعليها ما عليها ، فهذا هو العدل ، أما التميز فهو الظلم بعينه .
لقد سردت من خلال الأحداث الجارية والتاريخ معالم التمرد الطائفي واتجاهاته ، وكانت كلماتي موثقة بعيدة عن الإنشائية والمبالغة ، الغاية منها بناء رؤية شاملة لواقع هذا التمرد وتداركه ومعالجته بما يحمي الوطن في ظروف حرجة ، لا تحتمل هذا اللون من الانفلات الذي قد يؤدي إلى نتائج لا يعلم مداها إلا الله .
إن تكوين رأي عام يرفض التمرد وممارساته الخطيرة ضد الوطن والإسلام ، مسألة ضرورية ، كي تحل المواطنة محل التميز أو الجيتو ، والتعايش مع الإسلام دون رفضه أو التشهير به أو استهدافه ، والمسالمة والموادعة بدلاً من العدوان والشكوى ، والدولة الأم التي تحتضن الجميع وليس الدولة الأم التي تعيش فوقها دولة موازية ، وأقلية تحيا بجهدها ومشاركتها وليس بالاستقواء الخارجي أو الإسناد العلماني اليساري .
لقد تحدثت لجان تقصى الحقائق في ممارسات التمرد الطائفي منذ أوائل السبعينيات في القرن الماضي حتى الآن ، عن عدوانية المتمردين ، واستهتارهم بالقانون ، واستيلائهم على أراضى الدولة ، حتى رأينا مؤخرا استخدام لغة العنف والدم بطريقة منظمة .. مما يعنى ضرورة وقف هذا التمرد ومحاسبة قادته ، حتى يسلم الإسلام والوطن والمواطنون .
اسأل الله أن يهدينا جميعاً إلى ما فيه الخير والسداد والرشد .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ،،، *الشيخ المسير :
في عام لا أذكره من سبعينيات القرن الماضي تلقيت رسالة على مجلة الاعتصام التي كنت أشارك في تحريرها باسم محمد أحمد المسير ، من الأزهر الشريف ، عرضت الرسالة يومها ، وبعدها عرفت مقالاته طريقها إلى المجلة ثم الصحف والمجلات الإسلامية ، وصار أستاذا في الجامعة العريقة وله حضور في الإعلام الرسمي والخاص .لم تجرفه الأضواء إلى التفريط في عقيدته كما فعل غيره بل كان يناقش بالمنطق والحجة والبرهان ، فكسب احترام الناس حتى الخصوم ، للأسف لم أقابله ولم أتعرف عليه حتى جاء خبر رحيله إلى بارئه راضيا مرضيا بإذن الله . رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وعوض الأمة بأمثاله . [/size]